العيون بالتشكيل السعودي: نوافذ على الروح والهوية.



الفن التشكيلي ليس مجرد خطوط وألوان تُلقى على سطح اللوحة، بل هو انعكاس فلسفي عميق لتجربة بنو إنسان في امتزاجه مع التاريخ والثقافة وفي المشهد التشكيلي السعودي، يبرز هذا الفن كمساحة إبداعية تتجاوز حدود اللوحة لتُصبح شاهدة على هويةٍ وطنيةٍ وفرديةٍ متفردة، تتحول الريشة إلى أداةٍ تفك رموز الذات، وتصبح اللوحة فضاءً لا متناهِ لتجسيد المعاني والرسائل، في قلب هذا المشهد، نجد "العيون" قد استأثرت بمكانة رمزية لا تخفى على المتلقي ولا المهتم والناقد، إذ باتت نافذةً تتدفق منها روح التشكيل السعودي بكل ما تحمله من أصالة وحداثة.  
 
العيون لدى الفنانـ/ـة السعودي ليست مجرد عنصر بصري عابر؛ بل هي مجاز كالمعاني تنبض بالحياة، أشبه بكوكبة من القصائد الصامتة التي تتحدث بلغة تتجاوز حدود الكلمات، بل هي مرآة ثرية بالتعبير عن المشاعر، وعلامة فنية تحمل بين طياتها عمقاً ثقافياً.  

في العيون، نجد الفنانـ/ـة السعودي قد أبدع في تحويلها إلى حالة تعبيرية غنية؛..بياضها، وسوادها، وكحلها وظلالها تبدو وكأنها ذاتٍ أُخرى للمجرة تهمس بأسرارٍ دفينة بمداها ألا متناهِ عن الهوية والروح، حين يرسم الفنانـ/ـة السعودي عيون النساء، فهو لا يوثق ملامح بصرية جمالية، فهو بذلك ينسج فصول رواية بصرية حبكتها رمشها وأحداثها هدبها، إن تلك العيون، في كثير من الأحيان تتخطى الشكل، لتُصبح قصيدة بصرية تُجسد نغمات الحنين وصمت الدموع، لتُظهر تنوعاً في التعبير الذي يعكس جدلية الفكر والجمال في آنٍ واحد.  

السؤال يجتاح ذهني في هذه اللحظات ..
ماهي المحفزات التي أدت بالفنانـ/ـة السعودي إلى التركيز على رمزية العيّن دون سواها؟
يبدو لي المحفزات من عدة جوانب جمالية، ودينية، وشعرية، وجلها تكمن في عمق الثقافة والفلكلور السعودي منها البرقع، بوصفه جزءاً من اللباس التقليدي والثقافة السعودية، يُبرز العيون كنافذة وحيدة للتعبير عن المشاعر والهوية، هذا اللباس التقليدي، الذي يغطي معظم الوجه ويترك العيون مكشوفة، جعل تلك العيون رمزاً قوياً للجمال البصري والتعبير الإنساني، سواء في البادية أو لدى الحاضرة.  

العيون في لوحات الفنان السعودي فيصل المشاري

إضافة إلى ذلك، نجد أن التحفظات الدينية حول رسم ذوات الأرواح، قد دفعت بعض الفنانين السعوديين لابتكار أساليب تعبيرية كي تتجنب الوقوع في الشبهات والالتفاف على المحضورات أياً كانت هو إبداع فكري يضاف على الإبداع الجمالي، لتكون العيون الملاذ عندما يريد أن يعبر أي الفنانـ/ـة بإبداعاته التشكيلية، هي ذلك الحل الفني الذي يُجنب تفاصيل الجسد المكتملة، وفي الوقت ذاته يمنحه مساحة للتعبير عن أعماق الشخصية والمشاعر.  


العيون في لوحات الفنان فهد الربيق.

ومن جانب آخر؛ نجد أنفسنا أمام إرثٍ متجذر كرمال الصحراء في الثقافة العربية وخصوصاً السعودية؛ ألا وهو الشعر الغزلي، الذي طالما مجّد جمال العيون في أبياته، يبدو وكأنه في ألا وعي قد تسرب إلى ريشة الفنانـ/ـة السعودي، سواءً بادراك أو من حيث لا يعلم، يستلهم وصف العيون من التراث الشعري ويُسقطه على لوحاته؛ كاستعارة بصرية للشعر العربي، حيث تُصبح كل لوحة عملاً شاعريًا ولكنه بصري.  


العيون في لوحات الفنانة غزل السديس

الشاهد هنا .. العيون في المشهد التشكيلي السعودي تفاصيل جمالية، بل هي مجاز فلسفي وروحي يحمل في طياته كل أبعاد الهوية السعودية، لكنها أيضاً تعبير عن المعاناة، الحلم، والبحث عن الذات بين البرقع، واللثام، والتأثيرات الاجتماعية العرفية منها والعقدية، تتجلى العيون؛ كالهوية التي تتشابك فيها الأصالة مع الحداثة، والتقليد مع التجديد..🚶🏻
🖋️ جلال الطالب.

تعليقات

  1. شكرا استاذ جلال وانا اتابعك دائما واستفيد من اطروحاتك الجيدة ، وعندما اطلعت على العنوان هنا كان العنوان مثيرا وينم عن محتوى عميق لمعنى الفنون البصرية وابعدها المعاصرة وفي لحظات انتابني شعور المتابعة والاستمتاع بما يطرحة الناقد الاستاذ جلال كعادتة ؟ وفي لحظات احسست بنوعا من التسطيح واختيار موضوع العيون وكأنك ترجع بنا الى الوراء كرسم الشجرة والعصفور والجبل بعدما اخذتنا الى عوالم اخرى في قراءات سابقة ابحرت بنا الى عالم المعاصرة والبحث والتجريب ، هذا ما وصلني ولاني اعرف قدرات فناننا الجميل وناقدنا القدير كل التحايا ،،

    ردحذف
  2. الحبيب الغالي جداً الأستاذ جلال طالب أهديكم أجمل تحية 🌹
    وشاكر لكم مجهوداتكم بإظهار الفن التشكيلي السعودي بالمظهر الحضاري اللائق أمام العالم ❤️🙏

    ردحذف

إرسال تعليق

اهلا بك

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اشكالية الخيال : بين المنطق والجنون.

تجليات التفاهة في مرايا العظمة المكسورة