تجليات التفاهة في مرايا العظمة المكسورة

تجليات التفاهة في مرايا العظمة المكسورة

في زمن باتت فيه القيم تُعرض في المزاد، وتُشترى المكانة لا بالمنجز بل بالصوت الأعلى والإغراء.

في لوحاتي، كثيراً ما أرسم ظلالاً لا أجساد لها، رموزاً لا تحمل معنى، تماثيل بوجوه ضاحكة وأقدام طينية؛ لا أفعل ذلك عبثاً، بل لأن الزمن الذي نعيشه قد رفع التافهين فوق المنابر، وزيّن لهم أوسمةً من زيف، بينما العظماء، أولئك الذين صاغوا وجدان الأمة وسكبوا أرواحهم في تفاصيلنا، يُسحبون إلى الظل، ويُمنعون حتى من آخر مساحة في الذاكرة الفنية.

حقيقة.. التفاهة ليست خفة لون، بل خفة عقل.

هي ذلك اللون الرمادي الذي يلتهم كل ما حوله من ألوان، فلا يبقي للجمال حقه ولا للعقل مساحته، حين نحتفي بتافه، لا نمنحه مجرد تقدير مؤقت، بل نعيد صياغة معايير القيمة، نتنازل عن الفكر لصالح الضجيج، عن الأصالة لصالح المحتوى السريع، وعن الفن لصالح الهرطقة الرخيصة.

أما العظماء، فهم أولئك الذين صنعوا الفارق بصمت، في حروفهم نار، وفي أعمالهم مساحات من ضوء؛ حين نُسقطهم في دهاليز النسيان لا نُسقطهم وحدهم، بل نُسقط نحن أيضاً من الرقي الفكري نهين ذاكرتنا الفنية، نهين ضمائرنا التي كانت تميز بين القبح والجمال، بين الأصل والتقليد، بين الفكر والشكل.

تأملت ذات مساء لوحةً معلقة في أحد المعارض، تحمل توقيع فنانـ/ـة شاب لا يعرف من الفن إلا لونه الفاقع، كان الناس ملتفين حولها، يلتقطون الصور، يضحكون، ويكتبون تعليقات في هواتفهم، في الزاوية الأخرى من المعرض، كانت هناك لوحة لشيخٍ من رواد التشكيل السعودي مهملة؛ كأنها صمت من الفكر المكبل لا يهمس به أحد، أدركت حينها أن الجريمة ليست في صعود التافه فقط، بل في صمتنا عن سقوط العظيم.

إن التاريخ ليس محايداً كما يردد أولئك الذين يخدعون أنفسهم، بل له ذاكرة، وله صوت وله قلم هو الذي سيكتب، لا بل سيصرخ، في وجه من صفقوا للتافهين وتجاهلوا العظماء.

الشاهد هنا، لعل ما تبقى لنا من نجاة، أن نعيد الأمور إلى نصابها الجمالي والفكري، أن نتعلم أن الذوق الفني ليس مسألة شخصية فقط، بل مسؤولية؛ ومسؤوليتنا أن نُبقي الضوء حيث يستحق، لا حيث يطلبه التافهون..

تعليقات

إرسال تعليق

اهلا بك

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العيون بالتشكيل السعودي: نوافذ على الروح والهوية.

اشكالية الخيال : بين المنطق والجنون.